أحمد لطفي يكتب: لا تكن مثل محمد صلاح
في عالم يتغير بوتيرةٍ متسارعة، لم يعد العمل — بأي صورة من صوره — قائما على العاطفة أو النوايا الحسنة، بل على معادلة دقيقة تُدار بعقل بارد: ماذا تُقدِّم؟ وماذا تأخذ؟ تلك هي القاعدة الصلبة التي تحكم البيزنس الحديث، سواء كنت رائد أعمال، أو مديرا تنفيذيا، أو حتى موظفا في شركة خاصة .. فالعلاقة بين الفرد والمؤسسة ليست علاقة أبوة أو انتماء وجداني، بل شراكة مؤقتة تُقاس بالمصلحة المتبادلة والنتائج القابلة للقياس.
في العقلية الأوروبية والغربية عموما، تُدار الشركات باعتبارها كيانات استثمارية لا تعرف المجاملة .. الموظف ليس "ابن الشركة"، بل أصلٌ من أصولها، وما دام هذا الأصل يحقق قيمة مضافة، فهو مرحّب به، وحين تتراجع إنتاجيته، أو يتوقف عن التطور، تبدأ المؤسسة في البحث عن بديل أكثر كفاءة .. ولا خصومة في ذلك، ولا قسوة، بل منطق اقتصادي بحت: السوق لا ينتظر أحدًا.
هذه القاعدة تنطبق على الجميع دون استثناء، من أصغر موظف إلى نجم نجوم المؤسسة .. وهنا يمكن استحضار المثال الأشهر والتريند الحديث: محمد صلاح وإدارة نادي ليفربول .. كثيرون في عالمنا العربي ينظرون إلى علاقة اللاعب بالنادي من زاوية عاطفية خالصة: الانتماء، التاريخ، الإخلاص، الدموع، والذكريات .. ولكن في الغرب، كرة القدم ليست قصة رومانسية، بل صناعة واستثمار، النادي استثمر الملايين في اللاعب، ووفر له منصة عالمية، وفي المقابل ينتظر بطولات، أهدافًا، عوائد تسويقية، وارتفاعا في قيمة العلامة التجارية.
محمد صلاح — كنموذج — بقى في القمة لأنه استمر في تقديم أعلى مستوى، لا لأنه محبوب جماهيريا فقط، ولو تراجع مستواه بشكل حاد، أو توقف عن التطور، فلن تشفع له دموع الجماهير ولا تاريخه السابق .. سيتم استبداله بلا تردد، كما تم استبدال غيره من النجوم قبله، وهذا منطق الأشياء في عالم البيزنس .. هذه ليست قسوة، بل فلسفة: اللاعب الذي لا يُضيف، لا مكان له، تماما كالموظف الذي لا يطور نفسه، أو رائد الأعمال الذي يكرر أفكاره حتى تذبل.
المشكلة لدينا ليست في هذا المنطق ذاته، بل في صدمتنا به .. نحن نخلط بين العمل والعائلة، وبين الشركة والوطن، فنصطدم بالواقع حين تقرر مؤسسة خاصة إنهاء خدمات موظف مقصّر، أو تستغني عن عنصر لم يعد منتجًا، نراه ظلمًا، بينما تراه الأسواق إعادة ترتيب طبيعية للأولويات، الشركات الخاصة لا تدار بالعواطف، بل بالأرقام، والكفاءة، والقدرة على الاستمرار.
وتزخر تجارب كبرى الشركات العالمية بأمثلة لرجال أعمال ومؤسسين غادروا مناصبهم — طوعا أو قسرا — حين اقتضت مصلحة الشركة تبنّي مسار جديد .. ستيف جوبز نفسه، مؤسس "آبل"، تم إبعاده عن إدارة شركته عام 1985 عندما رأت الإدارة أن المرحلة المقبلة تحتاج إلى عقلية مختلفة، قبل أن يعود لاحقًا في توقيت آخر وبخطة مغايرة، وجاك ما، مؤسس "علي بابا"، تنحى عن رئاسة المجموعة رغم حضوره الطاغي، التزاما برؤية مؤسسية تفضِّل تداول القيادة لضمان الاستدامة، وفي "مايكروسوفت"، غادر بيل جيتس الإدارة التنفيذية تدريجيا لإفساح المجال أمام قيادة جديدة تقود الشركة نحو عصر الحوسبة السحابية، كما تنحى ترافيس كالانيك عن قيادة "أوبر" بعد أن قرر المستثمرون أن التوسع العالمي يتطلب نمط إدارة مختلفًا.
هذه النماذج تؤكد حقيقة مركزية في عالم البيزنس: حتى المؤسس ليس أكبر من الشركة، وحين تتغير الخطة، يتغير القائد، حفاظا على الكيان لا على الأشخاص.
ومن هنا، تصبح الرسالة الأهم للشباب واضحة: لا تربط مصيرك بالكامل بوظيفة، ولا تراهن على بقائك في مكان واحد إلى الأبد .. يجب أن تعمل على تطوير مهاراتك باستمرار، وكن أنت "القيمة المضافة" التي يصعب استبدالها .. والأهم من ذلك، ينبغي التفكير جديًا في العمل الخاص، وفي الأفكار الريادية التي لا تحقق لك دخلًا فقط، بل تخدم المجتمع، وتحل مشكلة حقيقية، وتترك أثرا يتجاوز وجودك الشخصي.
الوظيفة قد تنتهي، والمناصب تزول، والأسماء تتغير، لكن ما ينفع الناس هو وحده ما يبقى .. المشروع الذي يخدم، والفكرة التي تُصلح، والعمل الذي يُضيف قيمة حقيقية، هو الاستثمار الأبقى والأصدق .. وتظل الآية الكريمة أصدق تعبير عن فلسفة الحياة والعمل معًا: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾.
ومع ذلك، فإن منطق الحسم في عالم البيزنس لا يعني غياب التراحم أو تحول الشركات الخاصة إلى كيانات تستنزف موظفيها بلا ضمير، على العكس، فإن الشركات الكبرى والمحترمة في العالم الغربي تفصل بوضوح بين القرارات الاقتصادية وبين الكرامة الإنسانية، فهي قد تنهي دور أحد الموظفين لانتهاء صلاحيته المهنية أو تغير الاستراتيجية، لكنها في المقابل تلتزم بتوفير شبكة أمان حقيقية: معاشات تقاعدية مجزية، أنظمة تأمين صحي شاملة، برامج دعم ما بعد الخدمة، وأحيانا خطط لإعادة التأهيل المهني .. الفكرة الجوهرية أن العلاقة ليست قاسية، بل واضحة وعادلة؛ لا وعود زائفة ولا استغلال طويل الأمد .. فالبيزنس لا يقوم على الشفقة، لكنه أيضًا لا يبرر الإضرار بالإنسان، بل يسعى إلى تحقيق التوازن بين استدامة المؤسسة وضمان حياة كريمة لمن أسهموا في بنائها.


