ثروات القطب الشمالي.. القوى العظمى تتصارع للظفر بالكنز المدفون

في أقصى شمال الكرة الأرضية، حيث تتجمد الأنفاس وتتألق الأضواء القطبية، تتشكل ساحة جديدة للصراع الدولي، والقطب الشمالي، الذي كان يومًا رمزًا للعزلة والصمت الجليدي، يتحول اليوم إلى مسرح لتنافس القوى العظمى على كنوز مدفونة تحت طبقات الجليد الذائبة.
ومع تسارع الاحترار العالمي، تكشف المياه القطبية عن ثروات هائلة من النفط، والغاز، والمعادن النادرة، مما يجعل المنطقة نقطة جذب اقتصادية وجيوسياسية.
وفي هذا التقرير، من بانكير، نغوص في قلب هذا السباق الاقتصادي المحموم، مستعرضين كيف تحولت كاسحات الجليد النووية والقواعد العسكرية إلى أدوات للسيطرة على هذه الثروات.
الثروات المدفونة كنز القطب الشمالي
ويعد القطب الشمالي مخزنًا لثروات طبيعية هائلة، حيث تقدر هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية احتياطيات المنطقة بنحو 90 مليار برميل من النفط غير المكتشف، أي 13% من احتياطيات العالم، و30% من الغاز الطبيعي غير المستغل، أي حوالي 1700 تريليون قدم مكعب.
ولكن الجائزة الأكبر تكمن في المعادن النادرة، التي أصبحت العمود الفقري للصناعات التكنولوجية الحديثة، حيث تحتوي المنطقة، وخاصة غرينلاند، على رواسب ضخمة من الليثيوم، والتيتانيوم، والبلاديوم، والعناصر الأرضية النادرة مثل النيوديميوم والديسبروسيوم، التي تستخدم في صناعة البطاريات الكهربائية، توربينات الرياح، والإلكترونيات الدقيقة.
وتشير التقديرات إلى أن غرينلاند وحدها تمتلك 18% من الاحتياطيات العالمية لهذه المعادن، مما يجعلها هدفًا استراتيجيًا للدول الكبرى.
ممرات بحرية وفرص تجارية
وإلى جانب المعادن، فإن ذوبان الجليد فتح ممرات ملاحية جديدة، مثل طريق البحر الشمالي الروسي، الذي يختصر المسافة بين آسيا وأوروبا بنسبة 40%، وهذا الممر، الذي يمتد على طول الساحل السيبيري من مورمانسك إلى مضيق بيرينغ، يوفر ملايين الدولارات من تكاليف الوقود والوقت مقارنة بقناة السويس.
وفي عام 2024، شحنت روسيا 38 مليون طن من البضائع عبر هذا الطريق، بزيادة عشرة أضعاف عن العقد الماضي، مما يعكس الإمكانات الاقتصادية الهائلة.
والصين التي أطلقت على نفسها لقب "دولة قريبة من القطب"، تستثمر بقوة في هذا الممر عبر مشاريع مثل خط أنابيب "باور أوف سيبيريا" ومشروع الغاز المسال "Arctic LNG 2"، بتمويل يصل إلى 12 مليار دولار.

كاسحات الجليد النووية
وتعد كاسحات الجليد النووية، مثل فئة "أركتيكا" الروسية، أدوات حاسمة في هذا السباق، حيث تمتلك روسيا أكبر أسطول في العالم، يضم أكثر من 50 كاسحة، منها 8 تعمل بالطاقة النووية، قادرة على اختراق جليد بسمك 2.8 متر.
وهذه السفن لا تفتح الممرات البحرية فحسب، بل تتيح الوصول إلى مناطق التنقيب عن المعادن والنفط، مما يعزز هيمنة موسكو الاقتصادية.
وفي المقابل، تعاني الولايات المتحدة من تأخر واضح، حيث تمتلك كاسحتين نشطتين فقط، مع خطط لبناء ثلاث إضافية بحلول 2030، وكندا، بـ18 كاسحة، تحاول مواكبة السباق، بينما تسعى الصين لتطوير كاسحات نووية خاصة بها لدعم استراتيجيتها "طريق الحرير القطبي".
حماية المصالح الاقتصادية
ولضمان السيطرة على هذه الثروات، عززت الدول الكبرى وجودها العسكري، حيث تمتلك روسيا سبع قواعد عسكرية في القطب الشمالي، مزودة بصواريخ أرض-جو وغواصات نووية، خاصة في شبه جزيرة كولا.
والولايات المتحدة، التي تمتلك قاعدة ثول الجوية في غرينلاند، استثمرت 40 مليون دولار لتحديثها، مع خطط لنشر 250 طائرة مقاتلة بحلول 2030، وهذه القواعد ليست مجرد رموز للقوة العسكرية، بل تحمي عمليات التنقيب والنقل البحري، مما يجعلها أدوات اقتصادية بامتياز.
تحديات بيئية ولوجستية
ورغم الفرص الاقتصادية، تواجه الدول تحديات بيئية ولوجستية. ذوبان الجليد يجعل التنقيب أسهل، لكنه يزيد من قسوة الظروف المناخية، مع درجات حرارة تصل إلى -50 مئوية وغياب الشمس لأشهر، وهذه التحديات تتطلب استثمارات ضخمة في البنية التحتية وأجور مرتفعة للعمال، مما يرفع تكلفة استخراج المعادن والنفط.
كما أن المعاهدات الدولية، مثل اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، تضع قيودًا على السيادة، مما يزيد التوترات حول ملكية الموارد.
والقطب الشمالي لم يعد مجرد منطقة جغرافية نائية، بل أصبح مرآة للنظام العالمي الجديد، حيث تتقاطع المصالح الاقتصادية بالطموحات الجيوسياسية، والثروات المدفونة تحت الجليد، من معادن نادرة ونفط وغاز، تدفع القوى العظمى لتكثيف استثماراتها في كاسحات الجليد والقواعد العسكرية.