احتياطي عائم على ظهر البحر.. كيف ساهمت سفن التغييز في استقرار شبكة الغاز المصرية؟

اعتمدت مصر خلال الفترة الأخيرة على سفن إعادة التغويز كأداة حيوية لتأمين احتياجاتها من الغاز الطبيعي، بعدما توقفت صادرات الغاز وتحولت البلاد إلى الاستيراد منذ أكثر من عام، وتقوم هذه السفن بتحويل الغاز المسال المستورد إلى حالته الغازية، ثم ضخه في الشبكة القومية، مما ساهم في سد الفجوة بين الطلب المحلي والتراجع في الإمدادات.
وقد تعاقدت الدولة بالفعل على تشغيل إحدى هذه السفن لفترة تمتد من يونيو 2024 حتى فبراير 2026، مع تعزيز المنظومة بوحدتين إضافيتين، إحداهما قادمة من ميناء العقبة والأخرى من ألمانيا، بهدف ضمان استمرارية إمدادات الغاز.
محطة إدكو لتسييل الغاز
استمرار الاعتماد على هذه الوحدات يفرض تكاليف سنوية مرتفعة، وهو ما دفع إلى طرح بدائل أكثر استدامة، وفي مقدمتها مقترح إعادة توظيف محطات الإسالة القائمة، مثل محطة إدكو، لتعمل كمرافئ تغويز بديلة، باستخدام ما تمتلكه من بنية تحتية جاهزة، وبما يحقق وفرا كبيراً في النفقات ويقلل من الضغط على الموازنة.
هذا التحول المقترح لا يعد فقط حلا اقتصاديا لتقليل الاعتماد على السفن المستأجرة، بل يمثل أيضا توجها استراتيجيا للاستفادة من أصول الدولة القائمة، وضمان استقرار منظومة الطاقة المحلية في مواجهة التغيرات المفاجئة بأسواق الغاز العالمية.

خطة إعادة تأهيل محطة إدكو للتغويز
ضمن هذا الإطار، جرت دراسات فنية حول إمكانية إضافة تسهيلات إعادة التغويز إلى محطة إدكو، بحيث تتحول من تصدير الغاز المسال إلى مستقبل، يتولى تحويل الغاز المستورد إلى حالته الأصلية وضخه في الشبكة القومية.
جاء ذلك تزامنا مع استمرار تعاقدات الدولة على تشغيل وحدات تغويز عائمة، وتعزيز قدراتها بوحدتين إضافيتين خلال الأشهر الماضية، مما يبرز أهمية الإسراع بتنفيذ الحلول البديلة الأكثر استدامة.
تعد محطات الإسالة في مصر من الدعائم الأساسية لقطاع الغاز، خاصة في ظل موقع البلاد الاستراتيجي وطموحاتها للتحول إلى مركز إقليمي للطاقة، حيث تنفرد مصر بامتلاك منشأتين رئيسيتين للإسالة على مستوى دول شرق المتوسط، بطاقة إجمالية تتجاوز 12 مليون طن سنويا، موزعة بين محطة إدكو (7.2 مليون طن) ومجمع دمياط (5.2 مليون طن).
ومع تراجع التصدير خلال العام الأخير، بدأت المطالب تتزايد بإعادة استغلال هذه البنية التحتية لتلبية احتياجات السوق المحلي من الغاز، خاصة في ظل ارتفاع تكلفة الاعتماد على الحلول المؤقتة.
ما هو الفرق بين الإسالة والتغويز؟
من الناحية التقنية، تتشابه محطات الإسالة ومرافئ التغويز في العديد من المكونات الأساسية، فمحطات الإسالة تضم وحدات لمعالجة الغاز، وخطوط إسالة، وصهاريج تخزين، وأرصفة تحميل، بينما تتكون مرافئ التغويز من رصيف تفريغ، وصهاريج، ووحدات تبخير، وعدادات قياس قبل الضخ في الشبكة.
هذا التشابه يعزز فرص الاستفادة من البنية الحالية، مع إضافة تسهيلات التغويز اللازمة، دون الحاجة إلى بناء منشآت جديدة من الصفر، وهو ما ساهم في تقليل التكاليف المالية وتسريع الجدول الزمني للتنفيذ.
كغيرها من منشآت الغاز، تعتمد مرافئ التغويز على أنظمة مساعدة لضمان التحكم في عمليات التبخير وضخ الغاز، وتشمل هذه الأنظمة وحدات استرجاع الغاز المتبخر من الصهاريج وإسالته من جديد أو حرقه على الشعلة، بالإضافة إلى مضخات مياه بحر تستخدم في التبادل الحراري خلال عملية تحويل الغاز من حالته السائلة إلى الغازية.
وجود هذه الأنظمة أو إمكانية دمجها داخل محطات الإسالة القائمة جعل من خيار التحويل حلا هندسيا واقعيا وفعالا، خاصة مع توافر رصيف شحن وصهاريج تخزين، وهي مكونات مكلفة وحاسمة في أي مرفق تغويز جديد.

تشغيل مزدوج للتصدير والاستيراد
أحد أبرز مزايا تحويل محطات الإسالة إلى مرافئ تغويز هو إمكانية تشغيلها بوظيفة مزدوجة، بحيث يتم استخدامها لتصدير الغاز في حال توافر الفائض، وللاستيراد والتغويز في حال الحاجة، ما يمنح الدولة مرونة تشغيلية واستراتيجية مهمة في إدارة ملف الطاقة، دون التقيد بظروف سوق واحدة.
هل تنجح تجربة سفن التغويز؟
رغم الإمكانات الواعدة، يظل نجاح هذه التجربة مرهونا بعوامل عدة، على رأسها المساحات المتاحة داخل المحطة لاستيعاب وحدات التغويز، وحجم القدرة المطلوبة، والتكامل الفني بين الوظائف المختلفة، ويعد هذا المشروع خطوة دقيقة تتطلب توازنا بين الكفاءة الفنية والتكلفة الاستثمارية وجدوى التشغيل على المدى الطويل.
التجربة المصرية في هذا الملف قد تكون من الحالات النادرة التي يتم فيها التفكير في تحويل محطة إسالة إلى مرفأ تغويز، إذ جرت العادة عالميا على الاتجاه المعاكس، مثل تحويل مرافئ تغويز إلى محطات إسالة في بعض الدول، نتيجة تحولات الإنتاج، كما حدث في الولايات المتحدة خلال طفرة الغاز الصخري، ويضع هذا التحول العكسي، مصر أمام تجربة فنية فريدة، تتطلب دراسة دقيقة، لكنه في الوقت ذاته يعكس المرونة والرغبة في تعظيم الاستفادة من الإمكانيات القائمة.
نجاح مصر في هذا المشروع لن يجعلها فقط قادرة على تقليص الاعتماد على حلول مكلفة، بل ستعيد تموضعها في خريطة الطاقة الإقليمية، كمركز ديناميكي قادر على التحول من التصدير إلى الاستيراد والعكس، وفقاً لاحتياجات السوق، وفي إطار خطة أوسع لتحقيق أمن الطاقة وتعظيم الاستفادة من البنية التحتية الوطنية.