110 مليارات متر مكعب خلف السد.. هل ينقذ “مفيض توشكى” مصر من فيضان سد النهضة؟
تشهد قضية سد النهضة عودة قوية إلى واجهة المشهد الإقليمي بعد تجدد التوتر بين مصر والسودان من جهة، وإثيوبيا من جهة أخرى، على خلفية استمرار أديس أبابا في انتهاج أسلوب أحادي في إدارة السد وتشغيله، بعيدًا عن أي اتفاق قانوني ملزم ينظم قواعد الملء والتشغيل، ويحفظ الحقوق المائية لدولتي المصب.
وقد جاء افتتاح سد النهضة الإثيوبي رسميا في التاسع من سبتمبر الماضي بسعة تخزينية تفوق 74 مليار متر مكعب، ليعمّق حدة الخلاف ويفتح الباب واسعًا أمام تساؤلات عن المقاصد الحقيقية من هذا المشروع الضخم، الذي لا تستثمر فوائضه المائية في إنتاج كهرباء فعالة ولا في زراعة متطورة داخل إثيوبيا.
مخاطر سد النهضة
وخلال الأسابيع الماضية، اتخذت مصر إجراءات فنية استباقية للتعامل مع ما وصفته بـ«التصرفات غير المنضبطة» للسد الإثيوبي، بعد رصد تغيرات مفاجئة في تصريفات النيل الأزرق، دفعتها إلى فتح مفيض توشكى لتصريف كميات المياه الزائدة خلف السد العالي.
واعتبرت وزارة الموارد المائية والري - في بيان لها - أن هذا القرار يعكس يقظة مائية، هدفها حماية السد العالي ومنع أي ارتباك محتمل في حركة المياه، نتيجة قرارات تشغيل أحادية من الجانب الإثيوبي.

وزارة الري: إدارة سد النهضة “غير منضبطة”
وأكدت الوزارة أن التصرفات المائية الخارجة من سد النهضة لا تخضع لأي ضوابط فنية واضحة، وأن ما كان متوقعا هو خفض منسوب المياه في بحيرة السد تدريجيا من 640 مترا إلى 625 مترا بنهاية العام المائي.
وأضافت الوزارة في بيانها: “ لكن إثيوبيا سارعت إلى غلق مفيض الطوارئ، ما أدى إلى انخفاض حاد في التدفقات المائية، وتذبذب غير محسوب في حركة النهر، وهو ما وصفته القاهرة بأنه «تهديد مباشر لاستقرار النظام الهيدرولوجي لنهر النيل»، وانعكاس لمخاطر الإدارة الأحادية للسد على دولتي المصب”.
أهمية مفيض توشكى
وعلى خلفية هذه التطورات، أوضحت مصر أن مفيض توشكى يؤدي دورًا استراتيجيًا بالغ الأهمية، إذ يستخدم كصمام أمان لتصريف الكميات الفائضة من بحيرة ناصر باتجاه منخفض توشكى عبر قناة خور توشكى.
ويعود مشروع مفيض توشكى إلى منتصف التسعينيات، ويُعد واحدًا من أكثر المشروعات المائية حيوية في منظومة حماية السد العالي، لا سيما في حالات الفيضان الاستثنائي أو سيناريوهات انهيار السدود.

لغز حول بناء سد النهضة
وفي خضم الجدل المتصاعد، وجّه الدكتور محمد نصر الدين علام، وزير الموارد المائية والري الأسبق، تساؤلات لافتة حول جدوى بناء سد بهذه الضخامة، رغم محدودية كفاءته الكهربائية وعدم توظيف مياهه في الزراعة الإثيوبية.
وقال “علام”، في منشور له على صفحته الرسمية “فيس بوك” إن حجم تشغيل التوربينات في سد النهضة تراجع إلى مستويات منخفضة للغاية، مع فاقد مائي سنوي يصل إلى 5 مليارات متر مكعب.
وتساءل “علام” في منشوره: «إذا كان السد لا يُستغل في الكهرباء ولا الزراعة ولا يستخدم إنتاجه المائي داخل إثيوبيا، فما الهدف الحقيقي من بنائه؟ وهل يقتصر على الإضرار بمصر فقط أم يشمل السودان أيضًا؟».
ارتفاع منسوب المياه خلف سد النهضة بنسبة 80%
وخلال مداخلة تلفزيونية على قناة القاهرة والناس، أوضح علام أن ارتفاع منسوب المياه خلف السد بنسبة 80% خلال الفترة الأخيرة يعكس إدارة غير منضبطة للسد، مؤكدًا أن تشغيل مفيض الطوارئ بصورة رئيسية في ظروف مائية عادية يعد علامة واضحة على سوء الإدارة الفنية للسد، ويظهر غياب التخطيط طويل المدى في تشغيله.
وأشار إلى أن إثيوبيا تتعمد الاحتفاظ بأقصى كمية ممكنة من المياه خلف السد، دون مراعاة التوازن الطبيعي في حركة النهر، مما يؤدي إلى تصريفات مفاجئة وغير محسوبة قد تؤثر سلبًا على نظام إدارة المياه داخل مصر والسودان.

الحل الآمن لإنقاذ مصر من الفيضانات
وفي منحى آخر، أكد الدكتور عباس شراقي، أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية، أن نحو 110 مليارات متر مكعب من المياه محتجزة حاليًا خلف سد النهضة، لافتًا إلى أن الدولة المصرية تمكّنت، بفضل مشروعات معالجة المياه وتحديث البنية المائية، من تحييد الأثر المحتمل على المواطن.
وأشار “شراقي”، في مداخلة على تلفزيون العربية، إلى أن مصر أنفقت أكثر من 500 مليار جنيه على مشروعات تحلية المياه، وتجديد القناطر، ومحطات الصرف الزراعي والمعالجة، لتعزيز الأمن المائي الوطني.
وكشف أنه مع تصاعد القلق من سيناريوهات محتملة، يجري العمل حاليًا على توسعة وتعميق مفيض توشكى، بهدف مضاعفة قدرته التصريفية لتصل إلى مليار متر مكعب يوميًا، بدلًا من قدرته الحالية التي لا تتجاوز ثلث مليار متر مكعب في الظروف الطبيعية، ما يجعله ركيزة أساسية في حماية السد العالي، سواء في حالات الفيضان الطبيعي أو أي انهيار مفاجئ محتمل لسد النهضة.
وبهذه المعادلة المعقدة، تتسارع الأحداث في واحدة من أكثر القضايا المائية حساسية في القرن الحادي والعشرين، بينما تبقى الدعوة إلى اتفاق قانوني ملزم هي الإطار الأمثل لضمان التعايش المائي المتوازن، وتحويل السد من مصدر خلاف إلى أداة تعاون وتنمية مشتركة بين دول الحوض.


