التنمية تبدأ من الساحل.. الرمال السوداء تفتح أبواب الاقتصاد التكنولوجي لمصر
يشهد عام 2025 تحولًا استراتيجيا في ملف الثروات التعدينية بمصر، حيث برز مشروع استغلال الرمال السوداء على الساحل الشمالي كأحد أبرز النماذج التي تعيد رسم خريطة الاقتصاد الصناعي والتكنولوجي للبلاد، فهذا المشروع لم يعد مجرد نشاط تعديني، بل أصبح ركيزة للصناعات المستقبلية، ومحركًا قويًا للتنمية، خاصة بعدما حقق توسعًا ملحوظًا في الإنتاج والشراكات الخارجية، مؤكدًا قدرة مصر على المنافسة في سوق المعادن النادرة عالميًا.
وتمتلك مصر احتياطيًا ضخمًا من الرمال السوداء يقدر بـ1.3 مليار متر مكعب موزعة على عدة مواقع رئيسية تمتد بطول الساحل الشمالي من أبو قير وحتى رفح، ما يجعلها من أكبر الدول امتلاكًا لهذه الثروة، بنسبة تصل إلى نحو 65% من الاحتياطي العالمي.
هذا المخزون الكبير قادر على تغذية المجمعات الإنتاجية لأكثر من 200 عام بمعدل تشغيل يصل إلى 15 مليون طن سنويًا، ويحتوي على 41 عنصرًا معدنيًا تدخل في صناعات متقدمة مثل الطاقة المتجددة، وصناعة الطائرات، والصناعات الإلكترونية الدقيقة.
ما هي الرمال السوداء؟
الرمال السوداء هي رواسب ثقيلة داكنة اللون، تنتج عن الترسيبات التاريخية لنهر النيل القادم من الهضاب الإثيوبية، وتستقر على السواحل الشمالية لمصر، وتتكون هذه الرمال من مجموعة متنوعة من المعادن عالية القيمة الصناعية والاقتصادية مثل الإلمنيت، الروتيل، الزركون، الماجنتيت، الجارنت، والمونازيت.

وتكمن أهميتها في استخدام هذه المعادن في صناعات الطيران والصواريخ، والألواح الشمسية، والبطاريات الكهربائية، ومكونات الطاقة النظيفة، إلى جانب دورها في الصناعات الإلكترونية والتكنولوجيات المتقدمة، وتعد منطقة البرلس في كفر الشيخ من أكثر المناطق تركيزًا لهذه المعادن، بنسب تصل إلى 80% من إجمالي التركيز.
الرمال السوداء تتحول إلى مشروع وطني عملاق
بدأت مصر رحلتها مع الرمال السوداء منذ ثلاثينيات القرن الماضي على نطاق استثماري ضيق، قبل أن يتم تأميم المشروع في الستينيات، ثم توقف الإنتاج لعقود بسبب نقص التكنولوجيا المناسبة، ومع عودة الاهتمام الاستراتيجي بهذا الملف، تأسست الشركة المصرية للرمال السوداء عام 2018، كشراكة بين هيئة المواد النووية ومنظمة مشروعات الخدمة الوطنية وبنك الاستثمار القومي، لتعلن بداية مرحلة جديدة من الاستثمار المتكامل والمستدام.
وفي عام 2022، افتُتح مجمع مصانع الرمال السوداء في منطقة البرلس بمحافظة كفر الشيخ، على مساحة ضخمة وباستثمارات تجاوزت 4 مليارات جنيه، ويضم 6 مصانع فصل ومعالجة، إضافة إلى الكراكة "تحيا مصر" الهولندية، وهي أول كراكة كهربائية صديقة للبيئة في العالم بطاقة إنتاجية 2500 طن في الساعة.
وشهد عام 2025 توسعًا نوعيًا في إنتاج الرمال السوداء بنسبة 20% مقارنة بالعام السابق، مع إنتاج 298 ألف طن إلمنيت، و25 ألف طن زركون، و12 ألف طن جارنت، إلى جانب خطط لإنشاء 3 أو 4 مصانع جديدة بنهاية العام الجاري.
التأثير الاقتصادي.. عوائد ضخمة وفرص تصدير عالمية
يمثل المشروع نقطة تحول حقيقية في قطاع الصناعات التعدينية، حيث يقدر العائد السنوي لموقع واحد فقط بنحو 255 مليون جنيه، إلى جانب فرص تصدير بقيمة 800 مليون دولار سنويًا، مع توقعات بزيادة مساهمة مصر في الإنتاج العالمي إلى 5% بحلول 2026.
كما يدعم المشروع أكثر من 41 صناعة حيوية في مقدمتها الصناعات الدفاعية وبرمجيات الطيران وصناعة الألياف الزجاجية، والألواح الشمسية، ومكونات البطاريات، وهو ما يضع مصر على خريطة الدول المنتجة للمعادن التكنولوجية الاستراتيجية.
إلى جانب العائد الاقتصادي، أسهم المشروع في توفير أكثر من 5000 فرصة عمل مباشرة، وتحويل دلتا مصر، وخاصة محافظة كفر الشيخ، إلى مركز صناعي واستثماري جاذب، بعد توقيع شراكات مع مستثمرين من الصين ودول الخليج لإنشاء مصانع فصل ومعالجة عالية التقنية، ما يعزز سلاسل التوريد العالمية للمعادن النادرة.
الجوانب البيئية والتنمية المستدامة
يتميز المشروع باعتماد معايير بيئية متقدمة، حيث يسهم في تنظيف الشواطئ من بقايا المواد المشعة مثل اليورانيوم والثوريوم بنسب تتراوح بين 2 و4%، باستخدام تقنيات كهربائية تقلل الانبعاثات، كما يشمل محطة تحلية مياه وكهرباء بقدرة 75 ميجاواط تساهم في دعم الشبكة القومية.
وعلى المستوى الاجتماعي، يشكل مشروع الرمال السوداء محورًا لدعم المجتمعات الريفية، من خلال تدريب الشباب المحلي واستيعاب العمالة الفنية، ما يسهم في تقليل معدلات الهجرة الداخلية، ويدعم مفهوم التنمية الصناعية المتكاملة.

ابرز التحديات: ارتفاع تكلفة استيراد التكنولوجيا
ورغم النجاح الكبير، يواجه المشروع بعض التحديات مثل ارتفاع تكلفة استيراد التكنولوجيا والتنافس الدولي على المعادن النادرة، ومع ذلك، بدأت مصر بالفعل في بناء شراكات جديدة لنقل المعرفة الصناعية مع شركات أمريكية وصينية، وتعزز خطتها للتحول إلى مركز إقليمي لسوق المعادن الاستراتيجية، بما يتماشى مع رؤية الدولة 2030 للتنمية المستدامة.
وبذلك تحولت الرمال السوداء في 2025 من ثروة مهملة إلى قوة اقتصادية وصناعية واعدة، تسهم في تعزيز مكانة مصر عالميًا، وتدعم الصناعات الاستراتيجية والطاقة النظيفة، وتفتح آفاقًا استثمارية جديدة في مناطق الدلتا والساحل الشمالي، ومع استمرار التوسع في الإنتاج وعمق الشراكات الدولية، يظل هذا الملف من أبرز قصص النجاح الوطني التي تبشر بمستقبل اقتصادي أكثر قوة وتنـوعًا.


