من هشاشة الأموال الساخنة لصلابة الاسثمار.. كيف أثبت الاقتصاد المصري انه أقوى من الحروب؟

في وقت تتصاعد فيه التوترات الجيوسياسية بالمنطقة، وتتصدر مشاهد الصراع بين إسرائيل وإيران، يبرز الاقتصاد المصري كحالة استثنائية من الصمود أمام العواصف الإقليمية، فبينما كانت التوقعات تشير إلى أن تداعيات هذه الأزمات ستترك بصماتها الثقيلة على الأسواق الناشئة في الشرق الأوسط، جاءت المؤشرات المصرية لتؤكد عكس ذلك.
ونجحت الدولة في امتصاص الصدمات الخارجية، وحافظت على استقرار مؤسساتها المالية ومسارها الإصلاحي، وهذا الأداء لفت أنظار المؤسسات المالية العالمية، وفي مقدمتها معهد التمويل الدولي ووكالة فيتش سوليوشنز، اللذان قدما إشادات متطابقة بقدرة مصر على التعامل مع الاضطرابات الدولية.
كيف واجه الاقتصاد المصري الصدمات؟
وفي هذا السياق، قالت رامونا مبارك، رئيس قسم المخاطر في الشرق الأوسط لدى فيتش سوليوشنز، إن التوترات الجيوسياسية الأخيرة أبرزت قوة الاقتصاد المصري بشكل لم يكن متوقعًا.
وأضافت “مبارك”، في تصريحات للعربية بزنس، أن تأثيرات الحرب بين إسرائيل وإيران على مصر كانت محدودة للغاية، إذ اقتصر الأمر على انخفاض طفيف في قيمة الجنيه، معتبرة أن هذا التراجع المحدود يعد أمرًا إيجابيًا يعكس قدرة السلطات المصرية على مواجهة الصدمات الخارجية.
وأشارت إلى أن مرونة سعر الصرف واستمرار تدفق الاستثمارات في أدوات الدين، على الرغم من التوترات الإقليمية، شكلت مفاجأة إيجابية لدوائر المال الدولية، لافتة إلى أن هذه التطورات عززت من ثقة المستثمرين في متانة الاقتصاد المصري.
وأكدت أن قطاع السياحة حقق طفرة غير مسبوقة، ومن المتوقع أن تسجل مصر رقما قياسيا في أعداد السياح خلال العام الجاري، مدفوعة بالتحولات الاقتصادية والتنموية التي تشهدها البلاد.

الاقتصاد المصري في مواجهة الأزمات الإقليمية
من جانبه، أكد معهد التمويل الدولي (IIF) أن الاقتصاد المصري أظهر قدرا ملحوظا من المرونة في مواجهة الأزمات الإقليمية، موضحا أن تأثيرات التصعيد العسكري بين إسرائيل وإيران في يونيو الماضي على السوق المصرية كانت محدودة وسريعة الزوال.
وأشار التقرير إلى أن معدل التضخم السنوي تراجع إلى 14.9% في يونيو 2025، بعد أن بلغ ذروته عند 38% في سبتمبر 2023، بفضل حزمة من الإجراءات، من بينها تشديد السياسة النقدية وتوحيد سعر الصرف وتراجع أسعار الغذاء والطاقة عالميًا.
أوضح التقرير الدولي، أن تدفقات رؤوس الأموال ظلت مستقرة، حيث لم تشهد مصر سوى أربعة أشهر من صافي خروج الأموال من أدوات الدين منذ مارس 2024، في تحرك منظم يعكس تحسن ثقة المستثمرين.
أسباب تعافي الاقتصاد المصري في ظل التوترات العالمية
وأرجع التقرير الدولي الأداء القوي لمصر إلى تحسن الأساسيات الاقتصادية، مدعومًا بعدة محاور أساسية، إذ سجل قطاع السياحة أرقاما غير مسبوقة، كما ارتفعت تحويلات المصريين العاملين بالخارج بشكل ملحوظ، فيما ساعد نمو الصادرات على دعم الميزان التجاري.
كذلك لعبت التدفقات المالية الرسمية من المؤسسات الدولية والدول الخليجية دورا بارزا في توفير السيولة اللازمة لتغطية الاحتياجات التمويلية، مؤكدا أن الحكومة تمكنت من الحفاظ على قوة الإيرادات، مما ساعد على تعويض الانخفاض في عوائد قناة السويس، التي تأثرت بتعطل الملاحة في البحر الأحمر.

وأشار معهد التمويل الدولي إلى أن مصر لا تزال على المسار الصحيح لتحقيق الفائض الأولي المستهدف عند 3.5% من الناتج المحلي للعام المالي 2024/2025، لافتا أن مصر نجحت في تقليص اعتمادها على الأموال الساخنة التي لطالما مثلت نقطة ضعف في ميزان المدفوعات، حيث اتجهت الدولة إلى مصادر تمويل أكثر استقرارًا، مثل الاستثمار الأجنبي المباشر والتمويل الرسمي من جهات دولية.
وأضاف التقرير أن الإصلاحات الاقتصادية المطبقة منذ مارس 2024 ساعدت في جذب تدفقات قوية إلى سوق أدوات الدين المحلية، مع تحقيق عوائد مرتفعة بلغت 27.75% على أذون الخزانة، ما عزز جاذبية السوق المصرية رغم التوترات الإقليمية المتصاعدة.
تحديات الدين العام وبرنامج الطروحات
وأوضح التقرير أن العوائد المرتفعة على أدوات الدين المحلي لا تزال تمثل عبئا على تكلفة الاقتراض، رغم محاولات البنك المركزي خفض أسعار الفائدة، وأظهرت بيانات المزادات الأخيرة أن تصاعد التوترات ساهم في رفع العائدات المطلوبة من المستثمرين، ما يصعب جهود خفض تكلفة خدمة الدين.
وكشف أن تباطؤ برنامج الطروحات الحكومية يعرقل بعض أهداف الإصلاح الاقتصادي المتفق عليها مع صندوق النقد الدولي، لافتا إلى أن الصندوق قرر دمج المراجعتين الخامسة والسادسة والمقرر لها 15 سبتمبر 2025، في خطوة تعكس الحاجة إلى تسريع تنفيذ الإصلاحات الهيكلية.

اختبار حقيقي لقوة الاقتصاد المصري
تؤكد المعطيات أن الاقتصاد المصري يمر بمرحلة اختبار حقيقي، استطاع خلالها أن يثبت صلابته في مواجهة صدمات متتالية، من الحرب في الإقليم إلى ضغوط الطاقة وتعطل الملاحة.
ورغم أن الطريق لا يخلو من تحديات تتعلق بكلفة الدين وتباطؤ برنامج الطروحات، فإن قدرة الدولة على الحفاظ على استقرار مالي ونقدي، بالتوازي مع تحقيق طفرة في السياحة وتحسن في تدفقات الاستثمار، تعكس وجود أرضية أكثر صلابة من ذي قبل.
ويبدو أن السنوات المقبلة ستحدد ما إذا كان الاقتصاد المصري قادرًا على تحويل هذه المرونة إلى مسار مستدام للنمو، عبر استثمار الفرص المتاحة وتعميق الإصلاحات، بما يضمن تقليل الاعتماد على مصادر تمويل قصيرة الأجل وتوسيع قاعدة الإنتاج والتصدير.
وبين الإشادة الدولية والتحذيرات المستمرة، تبقى مصر أمام معادلة دقيقة: تعظيم مكاسب الصمود، وتقليص مخاطر التوترات الإقليمية والتحديات الداخلية في آن واحد.