8 مليارات دولار زيادة في حجم الدين.. هل تنجح مصر في السيطرة على الديون الخارجية؟
في الوقت الذي تتعالى فيه نبرة التحذيرات الدولية من تصاعد الدين العام المصري وتفاقم أعباء خدمته، تتحرك القاهرة بخطى محسوبة نحو إطلاق خطة مالية شاملة للسيطرة على الدين وإعادة صياغة هيكل الالتزامات الحكومية.
وبينما تصف المؤسسات المالية العالمية وضع الدين الخارجي لمصر بـ"الحرج"، تبدو لهجة الحكومة المصرية مختلفة تماما، إذ تتحدث بثقة عن قدرتها على تجاوز المرحلة الأصعب وتحويل الأزمة إلى مسار إصلاحي جديد.
ديون تتضخم.. وموازنة تتنفس بصعوبة
لا تخفي المؤسسات المالية الكبرى قلقها من تزايد فاتورة الدين، التي باتت تلتهم جانبا كبيرا من الموازنة العامة للدولة، على نحو يضغط على بنود الخدمات العامة والاستثمار الحكومي.
ووفق بيانات رسمية، بلغ الدين الخارجي لمصر نحو 161 مليار دولار في يوليو الماضي، مقابل 155 مليار دولار بنهاية ديسمبر من العام السابق، أي بزيادة تقارب 8 مليارات دولار خلال عام مالي واحد فقط، وهو ما يعادل نموا نسبته 4%.

أما على الصعيد المحلي، فقد تجاوز الدين 10 تريليونات جنيه، بزيادة تفوق 5% خلال ثلاثة أشهر، رغم إجراءات التقشف وضبط الإنفاق التي تبنتها الحكومة خلال السنوات الأخيرة.
هذا التصاعد يعكس ـ وفق خبراء الاقتصاد العالمي ـ اختلالا في التوازن بين الفوائد والنمو، إذ أصبحت معدلات الفائدة المرتفعة تتجاوز بكثير قدرة الاقتصاد على توليد عوائد حقيقية، مما يجعل خدمة الدين عبئا متناميًا لا يمكن تجاهله.
ديسمبر المقبل.. إعلان استراتيجية جديدة لخفض الدين
وبحسب تقرير نشرته “العربية بزنس”، تستعد الحكومة المصرية، أمام هذا المشهد المعقد، للكشف في ديسمبر المقبل عن استراتيجية وطنية جديدة لإدارة الدين العام.
وتستهدف هذه الخطة خفض الدين الحكومي من 85% إلى 75% من الناتج المحلي الإجمالي خلال سنوات قليلة، عبر مسار متعدد الأدوات يتضمن:
- إعادة هيكلة آجال الاستحقاق لتمتد في المتوسط إلى خمس سنوات بدلًا من الأعمار القصيرة الحالية.
- التحول إلى التمويلات الميسّرة ذات التكلفة المنخفضة بدلاً من القروض التجارية مرتفعة الفائدة.
- خفض تدريجي لخدمة الدين لتستقر عند حدود 7% من الناتج المحلي الإجمالي، ما يتيح مساحة مالية أكبر للإنفاق التنموي.
هذه الخطة لا تقتصر على التعديل الفني في جداول السداد، بل تمتد إلى إعادة صياغة فلسفة الاقتراض نفسها، بحيث يتحول الدين إلى أداة للنمو وليس عبئا عليه.

تحويل الديون إلى استثمارات
ضمن بنود الخطة، تفتح الحكومة المصرية مسارا موازيا للمفاوضات مع شركائها العرب والأوروبيين، يهدف إلى تحويل الديون إلى استثمارات إنتاجية أو مشروعات مشتركة.
وتشير مصادر مطلعة للعربية، إلى أن القاهرة بصدد اتفاق جديد مع الاتحاد الأوروبي قبل نهاية العام الحالي، استكمالا لبرامج مبادلة الديون التي بدأت مع ألمانيا وإيطاليا منذ تسعينات القرن الماضي، والتي أسفرت آنذاك عن تمويل مشروعات بيئية وتنموية ناجحة.
النهج الجديد يقوم على أن تتحول الديون القديمة إلى رأسمال منتج يسهم في دفع النمو ويخفف في الوقت ذاته من عبء السداد النقدي، في تجربة تسعى مصر لتوسيع نطاقها لتشمل قطاعات الصناعة والطاقة المتجددة والبنية التحتية.
برنامج الطروحات.. الذراع المالية لخفض الدين
لا يمكن قراءة خطة إدارة الدين بمعزل عن برنامج الطروحات الحكومية الذي يمثل أحد أعمدة التمويل الاستراتيجي للدولة، فكل صفقة بيع لأصول مملوكة للحكومة تُخصص نصف عائداتها مباشرة لتقليص حجم الدين العام، كما حدث في صفقة رأس الحكمة التي وُجه جزء معتبر من عائدها لسداد التزامات مالية داخلية وخارجية.
وينتظر أن يُسهم هذا المسار في تعزيز الاحتياطيات الأجنبية وتخفيف الضغط على الموازنة، مع الحفاظ على الانضباط المالي دون المساس بخطط التنمية.
ورغم وضوح ملامح الخطة الجديدة، تبقى معدلات الفائدة المرتفعة هي العقبة الأصعب في طريق التنفيذ، فالفائدة الحالية تتجاوز معدلات النمو الحقيقي، وهو ما يعني أن الدين يتضخم بوتيرة أسرع من قدرة الاقتصاد على توليد الإيرادات، بينما يواصل التضخم التهام المكاسب المحققة من الإصلاحات الأخيرة.
ويؤكد خبراء الاقتصاد أن كبح الفوائد هو المفتاح الحقيقي لخفض الدين، إذ لا يمكن تحقيق توازن مالي مستدام في ظل بيئة تمويلية مرتفعة التكلفة.

تحذيرات الخارج وثقة الداخل
على الجانب الآخر، تتعامل المؤسسات المالية الدولية، وعلى رأسها صندوق النقد والبنك الدوليان، مع المشهد المصري بحذر بالغ، محذرين من "مخاطر مرتفعة" حال استمرار هذا المسار دون تغيير هيكلي في هيكل الدين.
لكن الحكومة المصرية تبدو متمسكة بتفاؤلها، معتبرة أن الإصلاحات الاقتصادية الجارية، وعودة الثقة الاستثمارية تدريجيًا، إضافة إلى تدفقات رؤوس الأموال الخليجية والأوروبية، ستمنح الاقتصاد قدرة على امتصاص الصدمات وتحويل الدين إلى أداة تمويل للنمو وليس عائقًا أمامه.
موعد إعلان خطة خفض ديون مصر
تبقى الأشهر القليلة المقبلة حاسمة في اختبار واقعية الطموحات المصرية، إذ من المقرر أن تعلن الحكومة رسميا تفاصيل استراتيجيتها الجديدة في ديسمبر، وسط مراقبة دقيقة من المؤسسات الدولية والأسواق العالمية.
فهل تنجح مصر في إعادة هندسة ديونها وتحويلها إلى استثمارات إنتاجية قادرة على تحريك عجلة الاقتصاد؟، أم تبقى الأرقام أكثر صلابة من الوعود، وتتحول الخطة إلى اختبار جديد لقدرة الدولة على موازنة الطموح مع الواقع المالي الصعب؟
الإجابة ستتضح قريبا، لكن المؤكد أن القاهرة دخلت مرحلة جديدة من الرهان الاقتصادي الأكبر في تاريخها الحديث، بين التحدي والمغامرة، بين الدَّين والفرصة.
