ثورة الحوكمة.. الدولة تلزم شركات التأمين بقواعد تاريخية لحماية ملايين المصريين
في خطوة تعد نقطة تحول في تاريخ قطاع التأمين المصري، أصدرت الهيئة العامة للرقابة المالية (FRA) قراراً تاريخياً يُلزم شركات التأمين وإعادة التأمين بأول قواعد حوكمة ملزمة، مما يعكس التزام مصر بمعايير الحوكمة العالمية.
يأتي هذا القرار في وقت يشهد فيه السوق المصري نمواً ملحوظاً، حيث بلغت محفظة الأقساط 11.7 مليار جنيه في يناير 2025 وحدها، بنسبة ارتفاع 39% مقارنة بالعام السابق.
وفي هذا التقرير، من بانكير، نستعرض التطورات الأخيرة في حوكمة شركات التأمين في مصر، مع التركيز على القرار الجديد رقم 200 لسنة 2025، وتأثيره على الشفافية والمساءلة، وسط جهود التحول الرقمي والتنظيمي.
إطار تنظيمي تاريخي
ويعود تاريخ قطاع التأمين في مصر إلى أوائل القرن العشرين، حيث كانت الشركات الأجنبية تهيمن على السوق قبل التوطين في الستينيات بموجب قانون رقم 23 لسنة 1957.
وشهد القطاع تحولاً كبيراً مع صدور قانون التأمين رقم 10 لسنة 1981، الذي أعاد فتح الأبواب أمام الاستثمار الأجنبي عبر قانون 43 لسنة 1975، ثم قانون التأمين الموحد رقم 151 لسنة 2024، الذي دخل حيز التنفيذ في 2025.
وهذا القانون يلزم الشركات بزيادة رؤوس الأموال إلى حد أدنى يحدده الرقابة المالية، مع التركيز على تعزيز الملاءة المالية لتقليل الاعتماد على إعادة التأمين الخارجي.
وفي سياق الحوكمة، كانت الممارسات السابقة تعتمد على إرشادات عامة من الهيئة، لكنها غير ملزمة، مما أدى إلى تفاوت في مستويات الشفافية بين الشركات.
واليوم، مع تطبيق قانون التأمين الموحد، أصبحت الحوكمة جزءاً أساسياً من الترخيص والتشغيل، حيث تشرف الهيئة برئاسة الدكتور محمد فريد على أكثر من 30 شركة تأمين، بما في ذلك عمالقة مثل "مصر للتأمين" و"أوراسكوم للتأمين".
وهذه التطورات تتوافق مع أهداف رؤية مصر 2030 لتعزيز الشمول المالي، حيث يتوقع أن يصل حجم السوق إلى 4.85 مليار دولار في 2025.
قواعد حوكمة ملزمة لأول مرة
وفي 26 أكتوبر 2025، نشرت الجريدة الرسمية القرار رقم 200 لسنة 2025، الذي يعد الأول من نوعه في تاريخ القطاع، حيث يهدف القرار إلى تعزيز الإطار التنظيمي لشركات التأمين وإعادة التأمين، من خلال ضمان أعلى مستويات الشفافية، النزاهة، والمساءلة، وحماية مصالح المساهمين وحملة الوثائق.
ويطبق القرار على جميع الشركات المنصوص عليها في قانون التأمين الموحد، مع عدم الإخلال بالقواعد الموجودة لقيد الأوراق المالية في البورصة.

ومن أبرز بنود القرار: إلزام الشركات بإعداد ميثاق حوكمة داخلي يحدد واجبات مجلس الإدارة واللجان، بالإضافة إلى سياسات للامتثال، إدارة المخاطر، التدقيق الداخلي، الاستثمار، ومكافحة غسيل الأموال.
كما يحظر الجمع بين منصب رئيس مجلس الإدارة والعضو المنتدب، مع الحد الأدنى لعدد الأعضاء خمسة، أغلبهم غير تنفيذيين، بما في ذلك اثنان مستقلين على الأقل وتمثيل نسائي.
وهذه الضوابط تطبق اعتباراً من الانتخابات القادمة لمجالس الإدارة، مما يضمن تنوع الخبرات، خاصة في مجال التأمين.
منع تعارض المصالح
ويركز القرار بشكل خاص على سياسة منع تعارض المصالح، التي تعد عموداً أساسياً في الحوكمة، حيث يلزم الشركات بإعداد سياسة شاملة تغطي أعضاء مجلس الإدارة والعاملين، مع قيود صارمة على العضو المنتدب أو الرئيس التنفيذي، مثل عدم الجمع بين منصبه وأي وظيفة تنفيذية أخرى داخل الشركة أو في جهات مرتبطة بالتأمين.
كما يحظر قبول وساطة تأمينية للعضو المنتدب أو أقاربه حتى الدرجة الثانية، بينما يمتد الحظر للعاملين إلى الدرجة الرابعة، مع إلزام الإفصاح عن أي مصلحة شخصية في عقود الشركة.
وتلتزم الشركات بإخطار الهيئة خلال شهر بأي حالات تعارض قائمة أو علاقات قرابة بين الإدارات العليا والشركات الأخرى في القطاع.
وهذه الإجراءات تأتي لمواجهة التحديات التي واجهتها الشركات سابقاً، مثل النزاعات حول التعويضات، وتعزز الثقة في السوق، خاصة مع نمو الأقساط التكافلية بنسبة 63% في يناير 2025.
تشكيل اللجان والإدارات
ولضمان فعالية المجالس، يلزم القرار بتشكيل 10 لجان متخصصة، منها لجان التدقيق، المخاطر، الترشيح والمكافآت، الاستثمار، الحوكمة، والاستدامة، مع رئاسة بعضها من قبل أعضاء مستقلين.
كما يشكل ثلاث إدارات مستقلة للالتزام، إدارة المخاطر، والتدقيق الداخلي، مع تعيين مسؤول عن الحوكمة يتابع التنفيذ، وقد يدمج دوره مع مسؤول الالتزام بموافقة الهيئة.
ويطلب من الشركات مراجعة الميثاق سنوياً وإتاحته للمساهمين، مع إخطار الهيئة بأي تعديلات، وهذه الهيكلة تتوافق مع المعايير الدولية، مثل تلك الصادرة عن الاتحاد الدولي للرقابة التأمينية (IAIS)، وتساعد في مواجهة المخاطر السيبرانية، حيث منحت الهيئة الشركات ستة أشهر لتعزيز بنيتها التكنولوجية في أكتوبر 2025.
الإفصاح والتقارير خطوة نحو الشفافية الكاملة
ويلزم القرار بإعداد تقرير حوكمة سنوي يوقع عليه رئيس المجلس والعضو المنتدب، يعرض على الجمعية العامة وينشر ملخصه على موقع الشركة.
ويشمل التقرير إفصاحات عن هيكل الملكية، تشكيل المجلس واللجان، المكافآت، مدى الالتزام، التدابير والعقوبات، أداء الإدارات الرقابية، والتعاملات مع الأطراف ذات العلاقة.
وهذا الإفصاح يعزز الثقة لدى المستثمرين، خاصة مع توقعات نمو السوق بنسبة 3.89% سنوياً حتى 2029، ليصل إلى 5.65 مليار دولار.
المهل الزمنية والتطبيق
ومنحت الهيئة الشركات مهلة عام واحد لتوفيق أوضاعها مع الضوابط الجديدة، مع إخطارها بجدول زمني خلال شهر، وبيان ربع سنوي عن الإجراءات.
ويعد هذا التطبيق التدريجي خطوة حكيمة لتجنب الاضطرابات، مع التركيز على الانتخابات القادمة للمجالس.
وفي الوقت نفسه، تكمل الهيئة قواعد أخرى مثل استثمار صناديق التأمين وضوابط الوساطة، مما يعزز الاستدامة.
التأثير على السوق والتحديات المستقبلية
وسيؤدي هذا القرار إلى زيادة الثقة في السوق، حيث يتوقع ارتفاع الاستثمارات الأجنبية وتوسع المنتجات مثل التأمين الزراعي والمتناهي الصغر.
ومع ذلك، تواجه الشركات تحديات مثل الرقمنة والامتثال لمعايير ESG (البيئة والاجتماع والحوكمة)، حيث أشار الدكتور فريد إلى أن هذه التطورات ستدفع القطاع للمساهمة الأكبر في الناتج المحلي، مع الحرص على حماية العملاء.
ويمثل قرار 200 لـ2025 بداية عصر جديد للحوكمة في شركات التأمين المصرية، يجمع بين التنظيم الفعال والنمو المستدام، ومع استمرار الجهود، يتوقع أن يصبح التأمين جزءاً أساسياً من الحياة اليومية للمصريين، محولاً التحديات إلى فرص.
