سياسة نقدية محسوبة.. سر تمسك مصر بالنهج التدريجي في تعزيز قيمة الجنيه

في الوقت الذي تشهد فيه السوق المصرية تحسنا في مؤشرات تدفقات النقد الأجنبي واحتياطي العملة الصعبة، يبرز سؤال جوهري: لماذا لا تتجه الحكومة نحو تعزيز قيمة الجنيه بوتيرة أسرع؟ ولماذا تفضل الحفاظ على سعر صرف تنافسي رغم الانفراجة النسبية في الأوضاع الاقتصادية؟.
الإجابة لا تتعلق بمجرد مؤشرات رقمية أو تحركات لحظية، بل ترتبط برؤية استراتيجية مرتبطة بإيقاع السوق، تمنع تقلباته المفاجئة، وتحاصر التوقعات المبالغ فيها التي قد تؤثر سلبا على استقرار المنظومة النقدية.
لماذا لا تتجه الحكومة نحو تعزيز قيمة الجنيه بوتيرة أسرع؟
في هذا الإطار، يوضح علي متولي، الاستشاري الاقتصادي بشركة Ibis للاستشارات، ملامح السياسة النقدية الحالية، ويكشف الأسباب الحقيقية خلف تمسك الدولة بالنهج التدريجي في إدارة ملف سعر الصرف، وتأثير ذلك على حركة الصادرات، وسلوك المستثمرين، وثقة الأسواق.
وقال “متولي”: إنه يتوقع أن يتراوح متوسط سعر صرف الدولار مقابل الجنيه المصري خلال العام الجاري بين 51 و52 جنيها، مشيرا إلى أن هذه المستويات تعكس حالة من الاستقرار النسبي في سوق الصرف، بفضل مجموعة من العوامل الاقتصادية التي ساهمت في ضبط إيقاع السوق خلال الفترة الأخيرة.

الأموال الساخنة.. الحكومة تتحاشى تكرار "سيناريو 2018"
وأكد متولي أن تحفظ الحكومة المصرية تجاه السماح بارتفاع قيمة الجنيه أمام الدولار ليس عشوائيا، وإنما يأتي مدفوعا بالتجربة السابقة في عام 2018، حينما شهد الجنيه ارتفاعا ملحوظا بسبب تدفقات رؤوس الأموال الساخنة، إلا أن هذه الأموال سرعان ما غادرت الأسواق، مما تسبب في تراجع حاد للجنيه وقتها، وأدى إلى اضطرابات في السوق.
وأضاف أن صناع القرار باتوا أكثر حرصا على اتباع نهج تدريجي في تحريك سعر الصرف، بما يحافظ على التوازن، موضحا أن سعر الجنيه حاليا يعتبر تنافسيا للغاية، وهو ما يدعم نمو الصادرات، ويقلص من الواردات غير الضرورية، ما يفتح الباب أمام تحقيق نمو محتمل في الصادرات المصرية قد يصل إلى 12% وفق تقديرات الخبراء.
صندوق النقد يحذر: التدرج أفضل من القفز
وكشف متولي أن صندوق النقد الدولي سبق وأن حذر من أن أي ارتفاع سريع للجنيه المصري قد يؤدي إلى تكوين توقعات غير واقعية لدى المستثمرين والأسواق، وهو ما قد يغري رؤوس الأموال بالمغادرة السريعة، ويعيد السوق السوداء من جديد إلى الواجهة، ويحفز المضاربات غير المبررة.
ومن هنا، يرى متولي أن النهج التدريجي الذي تتبناه الدولة حاليا هو الأنسب، إذ يحقق هدف الاستقرار دون المخاطرة بحدوث ارتباكات مفاجئة في السوق.
وفيما يتعلق بتوجهات المستثمرين، أكد متولي أن التوصية ببيع الدولار لصالح الجنيه المصري تعد منطقية في هذا التوقيت، شريطة أن تلتزم الحكومة بتطبيق سياسة سعر صرف مرنة، ليس على مستوى التصريحات فقط، بل في التنفيذ الفعلي أيضا.

تقييم جولدن ساكس.. قراءة دقيقة للمشهد
وعن تقييم مؤسسة جولدن ساكس للاقتصاد المصري، قال متولي إن هذا التقييم يبدو منطقيا وسليما إلى حد كبير، لا سيما عند النظر إلى مؤشرات الاقتصاد الكلي ومعدلات سعر الصرف الحقيقي الفعلي.
وأوضح أن التحليل الصادر عن المؤسسة لا يعتمد فقط على التوقعات المتعلقة بسعر الصرف، بل يرتكز أيضًا على عوامل واقعية، منها استقرار تدفقات النقد الأجنبي، سواء عبر إيرادات السياحة أو تحويلات المصريين في الخارج، والتي تجاوزت 32 مليار دولار، إلى جانب الاحتياطي النقدي الذي قفز إلى أكثر من 48 مليار دولار، بالإضافة إلى مؤشرات على تحسن ملحوظ في الصادرات السلعية غير النفطية خلال الفترة الأخيرة، لهذا يتمتع الاقتصاد المصري في هذه المرحلة بقوة لم يشهدها منذ انطلاق ثورة 25 يناير.
ماذا تفعل مصر في إدارة سعر الصرف؟
في النهاية، لا تكمن قوة السياسات النقدية في القدرة على إبهار الأسواق بتحركات مفاجئة، بل في القدرة على كسب ثقة المدى الطويل، واحتواء المخاطر المحتملة قبل أن تتحول إلى أزمات، وما تفعله مصر اليوم في إدارة سعر الصرف ليس تقييدا لطموح العملة الوطنية، بل إعادة تعريف لمفهوم الاستقرار نفسه، حيث يكون التدرج المدروس أكثر قيمة من القفزات السريعة.
وتثبيت الجنيه عند مستويات تنافسية لا يعني تجاهل التحسن الاقتصادي، بل توظيفه في الاتجاه الأكثر نفعا من حيث دعم الإنتاج، وتحفيز التصدير، وتقليص الاعتماد على الخارج.