طفرة دولارية غير مسبوقة.. كيف أعاد الاقتصاد المصري بناء مصادر قوته في شهور قليلة؟
يشهد الاقتصاد المصري في الوقت الراهن واحدة من أكثر فتراته قوة منذ سنوات، ليس فقط من حيث تحسن المؤشرات الرقمية، وإنما من زاوية القدرة على إعادة بناء مصادر الدخل الدولاري بشكل متماسك ومتزامن بعد فترة صعبة اتسمت بتقلبات حادة في الأسواق العالمية وتراجع شهية المستثمرين.
ولعل اللافت في المشهد الحالي أن موجة التعافي لم تأت مدفوعة بقطاع واحد، بل جاءت نتيجة مجموعة واسعة من الإنجازات التي تشكل في مجموعها تحولًا حقيقيًا في بنية التدفقات الخارجية، بما يعكس استعادة الاقتصاد لعافيته وقدرته على توليد موارد مستدامة تعزز استقراره المالي على المديين المتوسط والطويل.
طفرة في التدفقات الدولارية
وتبدو قوة هذا التحول في اتساع نطاق القطاعات التي سجلت قفزات بالعملة الصعبة، فبين النقل البحري والسياحة والصادرات السلعية واستثمارات المحافظ المالية، تظهر ملامح مرحلة اقتصادية جديدة تنجح فيها الدولة في إعادة بناء مصادرها الدولارية بوتيرة متسارعة وبعمق أكبر مما كان متوقعًا.

ويؤكد هذا الاتساع أن الاقتصاد المصري لم يعد يعتمد على مصدر واحد لتغذية الاحتياطيات، بل يتحرك وفق هيكل متنوع يقلل من الهشاشة، ويرفع قدرته على مواجهة الصدمات الخارجية، فالآن بات هناك أكثر من مصدر دخل للعملة الصعبة بداية من الصادرات مرورا بالسياحة انتهاءا بتحويلات المصريين بالخارج.
قناة السويس.. عودة قوية تكشف متانة قطاع النقل البحري
تحقق إيرادات قناة السويس نموًا سنويًا بنحو 17% منذ بداية أكتوبر الماضي، وهو ما يمثل نجاحًا مهمًا للممر الملاحي في استعادة جزء كبير من نشاطه رغم التوترات الجيوسياسية في الشرق الأوسط وبعض التحولات في خطوط الملاحة الدولية.
ويعكس هذا الأداء أن قناة السويس ما زالت إحدى الركائز الأكثر ثباتًا في موارد النقد الأجنبي لمصر، قادرة على استعادة زخمها سريعًا كلما بدأت حركة التجارة العالمية في التعافي.
ارتفاع الصادرات غير البترولية
قفزت الصادرات غير البترولية بنسبة 19% خلال أول 10 أشهر من العام، لتلامس 41 مليار دولار، وهو رقم يعد من أعلى المستويات التي تسجلها مصر في هذا القطاع خلال العقد الأخير، فهذا النمو يعبر عن توسع قاعدة الإنتاج القابلة للتصدير، وتحسن جودة السلع المصرية، ونجاح الشركات في النفاذ إلى أسواق جديدة والحفاظ على تواجدها في الأسواق التقليدية، وبذلك تتحول الصادرات إلى محرك حقيقي لتوفير العملة الأجنبية، وليس مجرد قطاع مرتبط بالظرف الدولي.
السياحة.. انتعاش تاريخي يقوده المتحف المصري الكبير
ويمثل قطاع السياحة أحد أبرز قصص النجاح في الاقتصاد المصري خلال العام الجاري، إذ ارتفع عدد السائحين بنسبة 21% خلال 10 أشهر فقط، ليتجاوز 15.6 مليون سائح وفق بيانات وزارة السياحة، ويعد افتتاح المتحف المصري الكبير نقطة تحول كبرى في خريطة السياحة، ليس فقط كصرح ثقافي، بل كمشروع أعاد رسم هوية الجذب السياحي لمصر عالميًا.

وأدى ذلك إلى نمو متواصل في الحجوزات، وارتفاع متوسطات الإنفاق، وزيادة مدة الإقامة، ما يجعل قطاع السياحة اليوم أحد أهم مصادر الدعم للاقتصاد وركيزة ثابتة في بناء الاحتياطيات.
عودة الثقة في الاقتصاد المصري
وسجلت استثمارات المحافظ المالية الأجنبية أكثر من 10.2 مليار دولار خلال أول 10 أشهر عبر السوق الثانوية، وهو ما يعبر عن عودة قوية لثقة المستثمرين الدوليين في أدوات الدين المصرية وسياسات الإدارة الاقتصادية، وهذا النوع من التدفقات كان يشهد تراجعًا كبيرًا خلال السنوات الماضية، لكن عودته بهذا الزخم يُعد مؤشرًا بالغ الأهمية على تحسن نظرة المستثمر الأجنبي لمستوى المخاطر وتقييمه الإيجابي لمؤشرات الاقتصاد الكلي.
اقتصاد يتحول من التعافي إلى استعادة القوة
عند جمع هذه المؤشرات المتفرقة في إطار واحد، تبرز صورة اقتصاد يعيد بناء نفسه من القاعدة للأعلى، مدعومًا بموارد دولارية تزيد شهرًا بعد شهر، وبقطاعات قادرة على تحقيق نمو مستدام وليس مجرد تحسن عابر.
ويكشف هذا المشهد عن أن الاقتصاد المصري دخل بالفعل في مرحلة أكثر نضجًا، تتراجع فيها الضغوط، وتتحسن فيها مستويات السيولة الخارجية، وتتعزز فيها قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها الخارجية دون ضغوط استثنائية.
إن ما تشهده مصر اليوم من نمو في الإيرادات الدولارية هو جزء من تحول أكبر يعبر عن استعادة الاقتصاد لصلابته، وانتقاله من مرحلة مواجهة التحديات إلى مرحلة حصد ثمار الإصلاح وتوسيع قنوات الدخل، وهذا التحول يمثل مؤشراً قوياً على أن مسار التعافي لم يعد مجرد توقع، بل واقع تتأكد فصوله عبر بيانات متتالية تعكس حجم الإنجاز الاقتصادي خلال الشهور الأخيرة.
